فصل: (سورة الأنعام: الآيات 14- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأنعام: آية 13]

{وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}.
{وَلَهُ} عطف على اللّه {ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} من السكنى وتعديه بفي كما في قوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.

.[سورة الأنعام: الآيات 14- 16]

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}.
{أغَيْرَ اللَّهِ} همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو {أَتَّخِذُ} لأنّ الإنكار في اتخاذ غير اللّه وليًا، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم. ونحوه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ}، {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ}. وقرئ {فاطِرِ السَّماواتِ} بالجرّ صفة للّه، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري: فطر. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر. فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدعتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} وهو يرزق ولا يرزق، كقوله: {ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ: {ولا يطعم}، بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب: وهو يطعم ولا يطعم، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير لغير اللّه.
وقرأ الأشهب. وهو يطعم ولا يطعم، على بنائهما للفاعل. وفسر بأن معناه: وهو يطعم، ولا يستطعم. وحكى الأزهرى: أطعمت، بمعنى استطعمت. ونحوه: أفدت. ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك: وهو يعطى ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغنى ويفقر {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله: {وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وكقول موسى: {سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلا تَكُونَنَّ} وقيل لي لا تكونن {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ومعناه: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. و{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} العذاب {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} اللّه الرحمة العظمى وهي النجاة، كقولك: إن أطعمت زيدًا من جوعه فقد أحسنت إليه؟ تريد: فقد أتممت الإحسان إليه أو، فقد أدخله الجنة، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب. وقرئ: من يصرف عنه، على البناء للفاعل، والمعنى: من يصرف اللّه عنه في ذلك اليوم فقد رحمه، بمعنى: من يدفع اللّه عنه ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف، لكونه معلوما أو مذكورا قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب يومئذ بيصرف انتصاب المفعول به، أي من يصرف اللّه عنه ذلك اليوم: أي هو له، فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبىّ رضى اللّه عنه: {من يصرف اللّه عنه}.

.[سورة الأنعام: آية 17]

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه، فلا قادر على كشفه إلا هو {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من غنى أو صحة {فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكان قادرًا على ادامته أو إزالته.

.[سورة الأنعام: آية 18]

{وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}.
{فَوْقَ عِبادِهِ} تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة، كقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم. ولذلك صحّ أن يقال في اللّه عزّ وجلّ: شيء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح: جسم لا كالأجسام.

.[سورة الأنعام: آية 19]

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}.
وأراد: أي شهيد {أَكْبَرُ شَهادَةً} فوضع شيئًا مقام شهيد ليبالغ في التعميم {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله: {قُلِ اللَّهُ} بمعنى اللّه أكبر شهادة، ثم ابتدئ {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي هو شهيد بيني وبينكم، وأن يكون اللَّهُ {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} هو الجواب، لدلالته على أنّ اللّه عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له {وَمَنْ بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أى: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا صلى اللّه عليه وسلم {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} تقرير لهم مع إنكار واستبعاد {قُلْ لا أَشْهَدُ} شهادتكم.

.[سورة الأنعام: الآيات 20- 21]

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}.
{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} يعنى اليهود والنصارى يعرفون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة {كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} بحلاهم ونعوتهم لا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته. ثم قال: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} به، جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على اللّه بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا: {لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا}. وقالوا: {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها} وقالوا: الملائكة بنات اللّه و{هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحرًا، ولم يؤمنوا بالرسول صلى اللّه عليه وسلم.

.[سورة الأنعام: الآيات 22- 24]

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)}.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} ناصبه محذوف تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف {أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ} أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء للّه.
وقوله: {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} معناه تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. وقرئ: يحشرهم ثم يقول، بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ، ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة. فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم {فِتْنَتُهُمْ} كفرهم. والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم- الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة، لأنه كذب. وقرئ: تكن، بالتاء وفتنتهم، بالنصب. وإنما أنث أَنْ قالُوا لوقوع الخبر مؤنثًا، كقولك: من كانت أمّك؟
وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ: ربنا، بالنصب على النداء.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ} وغاب عنهم {ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشًا: ألا تراهم يقولون: {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ} وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحملُ قوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} يعنى في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عىّ وإقحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ. وما أدرى ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ} بعد قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

.[سورة الأنعام: الآيات 25- 26]

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)}.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تتلوا القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته- يعنى الكعبة- ما أدرى ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إنى لأراه حقا. فقال أبو جهل: كلا، فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله: {وَجَعَلْنا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: {وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} وقرأ طلحة: وقرا بكسر الواو {حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ} هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ويُجادِلُونَكَ موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: يقول الذين كفروا. تفسير له. والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك. وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون {إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فيجعلون كلام اللّه وأصدق الحديث، خرافات وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب {وَهُمْ يَنْهَوْنَ} الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} بأنفسهم فيضلون ويضلون {وَإِنْ يُهْلِكُونَ} بذلك {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشًا عن التعرض لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به.
وروى أنهم اجتمعوا إلى أبى طالب وأرادوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سوءًا. فقال:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ** حَتَّي أُوَسَّدَ في التُّرَابِ دَفِينَا

فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ** وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا

ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ ** وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا

وَعَرَضْتَ دِينًا لَا مَحَالَةَ أنَّهُ ** مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ ** لَوَجَدْتَنِى سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا

فنزلت.

.[سورة الأنعام: الآيات 27- 28]

{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)}.
{وَلَوْ تَرى} جوابه محذوف تقديره. ولو ترى لرأيت أمرًا شنيعًا {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أروها حتى يعاينوها. أو اطلعوا عليها اطلاعا هي تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك: وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته، وقرئ: وقفوا، على البناء للفاعل، من وقف عليه وقوفا {يا لَيْتَنا نُرَدُّ} تم تمنيهم. ثم ابتدءوا {وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات.
وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود، بمعنى دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني. ويجوز أن يكون معطوفا على نردّ، أو حالا على معنى: يا ليتنا نردّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني.
فإن قلت: يدفع ذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} لأنّ المتمنى لا يكون كاذبا. قلت: هذا تمنّ قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل: ليت اللّه يرزقني مالا فأحَسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمنّ في معنى الواعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال: إن رزقني اللّه مالا كافأتك على الإحسان. وقرئ: ولا نكذب ونكون، بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين {بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرًا، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل: هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل: هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار {لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} من الكفر والمعاصي {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به.

.[سورة الأنعام: آية 29]

{وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)}.
{وَقالُوا} عطف على لعادوا. أي ولو ردّوا لكفروا ولقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله: وإنهم لكاذبون، على معنى: وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا. وكفى به دليلا على كذبهم.